الروبورتاج من إنجاز كريمة إيد عبد الله

 كغصن يابس انتشى، فغدا يتمايل مع الرياح يبحث عن حياة تتراءى قرية بوازار فوق سهل قاحل .. القرية المسلوبة الفجر والعصافير .. ذاك المكان الخالي من الدفء رغم حرارة الشمس التي تتلكأ فوق رؤوس ساكنيها،قرية لا تسمع فيها لا حفيف الأشجار،لا مناجيل الحصادين ،لا سقسقة الجداول ولا حتى ضحكات الصغار ومناقيشهم. 

هناك في تلك الرقعة من الجنوب المهمل حيث القليل من الخبز والكثير من الشقاء وحيث نظرات الصغار تُجهض الروح وتبعثر النبض،ثمة أغوار تحمل ثروات خيالية يعجز عقل البسطاء أمثالهم على حصرها. 

على بعد 34 كلم عن تازناخت بالجنوب الشرقي للمغرب، وفي حدودها مع جماعة البليدة وإقليم زاكورة ، يترامى أحد أكبر المناجم لاستخراج الكوبالت ،الذي تستغله شركة تيفنوت تيغانمين التابعة للهولدينغ الملكي. تم اكتشاف المخزون الهائل من معدن الكوبالت و معادن أخرى ثانوية كالذهب و النحاس و أكسيد الحديد و الكاديوم الذي تعج به المنطقة مع دخول القوات الفرنسية إلى منطقة ورززات سنة 1930.

لعنة الكوبالت في جوف سكان بوازاز :

 بعيون يطل منها الشقاء و التعاسة ،وقلوب تحمل من الكره و العداء لمحتل يسعى لمحو أسمائهم من القرية ليحقق سياسته التوسعية يحتج” متعبون من كل شيء”.. كلمات صدح بها ‘المد.م’ أحد سكان القرية، الذي عمل لسنوات قبل أن يطرد من العمل بتهمة السرقة الملفقة. يسرد معاناته وربيعه الخمسون يعربد فوق كل تقاطيعه ولعنة الكوبالت تصعد من جوفه حاملة غيظ كل الرجال.. 14 أسرة يضيف م.م هي من تشكل قرية بوازار اليوم  بعدما بدأ أهاليها يهجرونها تباعا قصرا لا طواعية.  بعض المغروسات الباهتة هنا وهناك، أطلال منازل مهدمة، وأخرى آيلة للتهاوي على رؤوس ساكنيها، تصدعات و شقوق لا تخلو منها جدران أي منزل بسبب صوت وهدير ”الكونكاسور” و البارود  المستعمل في عمليات الحفر والهدم ،فلا يظل للسكان سوى اعتلاء السلالم نهارا لمناشدة الجدران حتى لا تباغتهم ليلا وهم نائمون..

ولكي نوسع من إدراكنا ونكون أكثر موضوعية في تناول هذا الموضوع، لابد أن ننتبه إلى جانب ضعف بل انعدام الخدمات و البنيات التحتية الضرورية، أزيد من 80 سنة من التعدين  مقابل ما ماذا؟ الجواب يقدمه السكان. 

 بمرارة تحكي خديجة و ابتسامتها الدافئة تملئ  وجها علته صفرة ”نحن نساء هذه القرية تطوقنا العزلة من كل جانب” لا مدرسة ولا نادي يحوينا، لا يوجد بالقرية سوى مستوصف موصد إلا للحالات الطارئة ،ومدرسة حولت لمخزن تابع للمنجم. والحقيقة الأشد مرارة من كل السموم _ تتابع خديجة_ أننا لا نجني من النشاط المنجمي سوى التلوث و الأمراض ،والإقصاء والتخريب الذي يسير بنا نحو الإخلاء و الرحيل. و كل مطالبنا مدرسة تقي الصغار من جهاد يومي و مستوصف قريب يحتضن سقمنا و عللنا..

كفاح معذبي باطن الأرض:

 ”اللهم إن هذا منكر” أنشودة يرددها سكان وعمال منجم بوازار صباح مساء ممن  قدموا جزءا من صحتهم ووهبوا أنفسهم قربانا في سبيل إنجاح الشركة. الكادحين الذين اضطرتهم ظروف العيش القاسية إلى تحمل العمل في هكذا ظروف لتوفير ما يمكن توفيره من ضروريات الحياة ،شريحة مقصية تكافح و تكدح لأجل معادلة الخبز والأمان.

يقول بعض العمال ممن عايشوا نشاط المنجم سابقا ،أن ظروف العمل في فترة الاستعمار كانت أحسن بكثير؛ إذ أن الشركة كانت تلتزم بأداء امتيازات،العمال والاهم أنهم يعاملون معاملة إنسانية. تبدأ رحلة العمال في الساعة السابعة صباحا أو الثانية زوالا أو التاسعة مساء إذ تتناوب على العمل ثلاث مجموعات. فمنهم من يغادر على مغص فراشه البارد شتاء والدافئ صيفا مستسلما لزمهرير البرد يلسعه أو للأشعة الشمس اللاهبة تحرقه ،ومنهم من يرجع في أخر النهار أو في الليل محملا بِلاَءَاتٍ كثيرة، وجْه ٍشاحبٍ وكثير من التعب.. يعودون  من ضراوة نهاراتهم الثقيلة إلى أوكارهم ، طمعا في قسط راحةٍ مِنْ شَأْنِهَا مصالحة الجسد المنهك مع روح وذاكرة اختزلت تجاويف واقع مرير يعيشونه يوميا. لكن رغم هذا الشقاء ورغم الإنتاجات الضخمة التي ينتجها العمال يوميا تبقى أجورهم هزيلة لا تخضع لأية معايير قانون الشغل ،ولا تكفي حتى لِسد حاجياتهم بالمقارنة مع طبيعة عملهم إذ لا يتقاضون سوى مائة درهم في اليوم مقابل ثمان ساعات يوميا تحت عمق 750 متر و الأكثر من ذلك أن عقود العمل محدودة في بضعة أشهر يتم تجديدها إن أرادوا ذلك، ليتسنى لها التخلص منهم بكل سهولة. ليظل الترسيم داخل الشركة  أملا  يجددون به أحلاما أخرى  تنتحر مع كل غروب.. 

صبوات المقاومة العمالية:

استطاعت نقابة العمال التي تأسست سنة 2007  إلى حد ما أن تعري على بعض من  الواقع المزري الذي تعيشه  قرية بوازار، بعدما قرر مجموعة من العمال رفع أصواتهم معلنين عن عزمهم في المطالبة بإنصاف قريتهم،متشبثين بحقوقهم المقدسة المتعارف عليها في القوانين الدولية ..عمال انخرطوا في النقابة بعدما سئموا من تحرير الشكايات و توقيع الأوراق دون أي لفتة من الجهات المعنية ، لتقضي بذلك على بعض من أمالهم في انتزاع حقوقهم المشروعة في تطبيق القانون في أرضهم. لكن هذا التصعيد القمعي ضد صبوات المقاومة العمالية ،وكل التماطلات التي  تنهجها الشركة في محاولة لإجهاض نضالهم و إخماد كفاحهم وكذا تملصها من المسؤولية وعدم احترامها لأبجديات الحوار بل رفضها لأي حوار مع السكان و العمال، كلها محاولات يائسة لم تتمكن من إقبار صوتهم ولا زعزعة إيمانهم.

مخلفات الكوبالت تثقل الأرض:

دون هواء نقي ،أو وضع بيئي سليم ، يعيش سكان قرية بوازار؛ إذ تعاني المنطقة من كارثة بيئية خطيرة تتجسد في حجم النفايات الصلبة والسائلة السامة التي يخلفها المنجم ، و التي ابتليت بمخاطرها جميع الكائنات الحية على رأسها الإنسان 

رغم أطنان المعادن التي تستخرج سنويا ، لم تستفد القرية من عائداته لا على مستوى البنيات التحتية ولا المشاريع التنموية شيئا، بل لم تجن سوى التلوث و الجفاف، وهو ما تفسره الشركة بالعوامل الطبيعية في تبرير لما وصلت إليه القرية من جراء أنشطتها الغير المعقلنة. أثَرُ النشاط المنجمي على البيئة وعلى كل الأنظمة الايكولوجية جلي؛ فلا محاصيل زراعية و لا نشاط فلاحي في القرية، حرمهم التلوث من استغلال أراضيهم وممارسة نشاطهم الفلاحي، الذي يعتبر النشاط الرئيسي و مصدر عيش سكان القرى. ولم  تحصد من ذلك سوى انتشار وتطاير الغبار الذي تحدثه المقالع و تلويث سمائها بالأدخنة من جراء عمليات الحفر و التحميل.

تقوم الشركة بطرح أطنان من نفاياتها على شكل أوحال وكثبان من الأتربة ‘لاديك’ قرب وادي اوحميدي المجاور للقرية ، و تتركها في الهواء الطلق دون معالجة ، مما يودي إلى انتشار الخامات المعدنية و الأحماض المستعملة في مجال التعدين واختلاطها بالتربة والفرشة المائية و بالتالي تسربها إلى القرى  المجاورة عبر المواد الغذائية و المحاصيل الزراعية ،ما ينتج عنه أوبئة و أمراض خطيرة..

تتطلب عمليات التنقيب على المعادن الكثير من عمليات الحفر و التكسير والتفجير، ما يتطلب استعمال آلالات و البارود الذي يتسبب في انبعاث روائح تضم مركبات خطيرة على الإنسان ،وكذا ضوضاء  تؤثر على قدرة السمع ،لتصبح الانفجارات والاهتزازات طقسا و وِرْدًا يوميا يتحمله السكان.

وما يعزز أقوال السكان هي الدراسة التي قام بها فريق المساء بعد أخده لثلاث عينات، واحدة من إحدى الآبار ببوازار، والثانية بوادي اوحميدي و أخرى من بئر زاوية سيدي بلال ،والتي كشفت عن وجود تركيزات عالية من بعض المعادن السامة 5.19 جزء من المليون من عنصر الكروم في بئر بوازار ، و11 جزء من المليون في عينة مياه وادي اوحميدي ،و5.04 جزء من المليون في بئر سيدي بلال . أما على مستوى التربة فقد أخدت عينتين واحدة من إحدى الضيعات على مقربة من المنجم ،وأخرى بزاوية سيدي بلال ،وتم تسجيل نسبة 112.48 جزء من المليون من الرصاص في زاوية سيدي بلال و 102.72 في تربة الضيعة  و نسب عالية من الكوبالت و الكاديوم . وقد أثبتت الدراسات الطبية أن التعرض لمثل هاته المعادن يسبب أمراضا خطيرة  من ربو و التهابات على مستوى الجهاز التنفسي و الهضمي و يصل الأمر إلى الإصابة ببعض أنواع السرطانات.

تجاوزات ضد البيئة ، وتدمير لكل مقومات الحياة، يقابلها تعنت المسؤولين و تجاهلهم  لحقوق السكان في العيش في بيئة سليمة، وتجاهل حقهم في رفض أي نوع من الأنشطة الكيماوية أو التنقيبية ضمن نطاقه العمراني. ثمن نشاط منجم بوازار المدمر لبيئة المنطقة يدفعه السكان والنبات والأشجار التي يقتضي أن تكون خضراء ، لكنها هنا و ككل شيء باهتة اللون.. غادرت اخضرارها واعتلاها السواد .. ليظل أمل تحقيق العدالة البيئة أو فتح نقاش بيئي  ما يبقي ساكنة بوازار على  قيد الحياة . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنتهى 

 ملحوظة  حاولنا الاتصال ببعض المصالح التي لها علاقة بالقطاع البيئي و النشاط المنجمي  لإدراج رأيهم في الموضوع لكن لم نتوصل بأي رد منهم .

عن جريدة المساء