في البدء كانت الفكرة ...ثم كان القلم
أن تخاطب ممثلة في فلم او مسرحية او اي عمل ادبي ممثلا بهاته الجملة " أنت اسدي الرائع المعطاء " في عصرنا هذا لايختلف في شئ عن مخاطبتها له بمثل " هل ترافقني للتسوق ياحبيبي ام لا " بمعنى ان هاته العبارة لاتثير شيئا ذا بال غير تعبير عادي عن حب لدى المتلقي الحالي حتى وإن كان من عتاة المحافظين .
لكن الذي لايعرفه الكثيرون هو أن هاته الجملة كانت قد احدثت سجالا هائلا في المجتمع الفرنسي بمثقفيه وسياسييه وعامته وصلت احيانا لمستويات استعمال العنف المادي بين المحافظين والمتنورين .
تاريخ الافكار في فرنسا القرن التاسع عشر يقول إن الكاتب فيكتور هوغو قد وجد مقاومة شديدة حين بدأ في عرض مسرحيته المعنونة "هيرناني" في ربيع 1830 بباريس بسبب ماتحتويه من اساليب تعبيرية غير مسبوقة وبناء درامي ثوري بالمقارنة مع الافكار الكلاسيكية السائدة آنذاك في كل مستويات الانتاج المعرفي الفرنسي . لقد بدت مثلا جملة انت "اسدي الرائع المعطاء" مستفزة للمتلقي آنذاك لدرجة رفضت فيه الممثلة التي ستلعب دور شخصية "دونا صول" مخاطبة شخصية "هرناني" بأسدي الواردة في النص الاصلي للمسرحية . واصرت على تبديله "بسيدي" لكي تحترم الذوق السائد آنذاك. ورغم ذلك فقد إنتهت مسرحية "هرناني" الى المنع من طرف حكومة لويس فيليب بمبرر أنها تخدش الحياء العام وتحتقر العادات المجتمعية مع ان السبب الرئيسي لفعل المنع يعود لمقاربة المسرحي الكبير للعلاقة بين النبلاء وعامة الشعب وجعلهما ندا لندا عكس السائد قبل ان يمرغ العالم الرمزي للطبقة الارستقراطية المسيطرة ويسخر منها وفي المقابل رفع من شأن الفرنسي العادي الذي نسميه مغربيا حميدلامبدا . لقد كانت مسرحية "هرناني" التي عرفت تاريخيا "بمعركة هرناني"مسرحا لمواجهة فنية وأدبية واديولوجية وسياسية بين عالم نكوصي يقاوم الفناء وبين عالم يهفو الى مزيد من الحرية والنماء استعملت فيها كل اساليب الحرب بمعناه الواسع .
الماضي يغزو الحاضر
الدافع لهذا "الفلاش باك" الذي سافر بنا قرنين نحو فرنسا ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو اللغط الكثير والضوضاء الذين رافقا تسريب لقطات من فلم اخرجه نبيل عيوش عنوانه "الزين للي فيك" والذي إنتهى إلى تقيؤ قرارحكومي يقضي بمنع عرضه بقاعات الايالة الشاريفية ، وهوقرار لايمكن اعتباره سوى قرارا سخيفا يستهزء بعقول المغاربة بشكل وقح . لماذا ؟
أولا إن الفلم هو إنتاج سينمائي سيعرض في القاعات السينمائية والمواطن له كامل الاختيار في الذهاب لمشاهدته من عدمه والتحفظ المقبول هو امكانية منع دخوله لاقل من 18 سنة مثلا من طرف لجنة ذات الاختصاص وذات التكوين الجيد .
ثانيا إن الانتاجات الابداعية لايمكن ان تكون موضوع منع كيفما كانت طبيعتها لأن ذلك يعتبر شكلا من اشكال الوصاية التي ستكون ، إن أصبحت قاعدة مقوننة ، سلاحا يستعمله الفاعلون السياسيون والاقتصاديون في مراكز القرار ضد كل من يعتبرونهم خصوما يهددون مواقعهم وامتيازاتهم .ولأن المنع يحرم المتلقي من تطوير ملكة العقل النقدي ويقتل فيه روح الابداع والمجادلة والاعتماد على الذات في الحكم على معطيات الواقع المتحركة . المتلقي وحده من له الحق في الحكم على اي منتوج برفعه عاليا أو تمريغه في الوحل . اليس الزبد من يذهب جفاء ولايبقى في الارض الا ماينفع الناس .
ثالثا إن منع أعمال تستطيع أن تطوف العالم عشر مرات في دقيقة واحدة تجعل الذين يصدرونه في موقف كاركاتوري لايختلف في شئ عمن يحمل سيفا خشبيا ويخرج ليواجه به سربا من الدبابات . بل ويعطي فعل المنع مفعولا عكسيا إذ سيمنح للعمل الممنوع قوة جذب هائلة حتى وإن كان انتاجا تافها من حيث المعنى ومن حيث المبنى .
رابعا لم يحدث في التاريخ أن انتصرت الرقابة على الابداع بكل أنواعه ، فالرقابة تنجح فقط في تأخير انتشاره لبضعة ايام او سنوات حتى ، لكنه في الاخير يختفي المراقب للأبد ويرمى في مزبلة التاريخ بينما الابداع يعبر الامكنة والازمنة حسب قوة تماسك بناءه الداخلي ومدى وجاهة الافكار التي يقدمها للمتلقي وللعالم .من لايعرف فيكتور هوغو وانتاجاته الان ؟ ومن يتذكر حتى اسماء من اصدروا المنع في حقه ؟
خامسا إن االتحجج بالمنع لكون الفلم مثلا يسيئ لسمعة البلد وشعبه لايمكن الانعته بالعذرالذي هو أسخف من الزلة . الانظمة الذكية والوطنية لاتداوي آفاتها الا بالحفر الجاد بحثا عن جذورها ثم تحليل مكونات التربة التي تنبتها قبل اجتثاثها بعمليات جراحية مضمونة النتائج . أما الانظمة التوتاليتارية فتحكمها المزاجية وردود افعال عابرة تندرج في البروباكاندا التي تتوخى تحقيق منافع ذاتية لأنها واعية أن تلك الافات هي من صنع سياساتها وبرامجها وهي ملازمة لها ولايمكن أن تزول الا بزوالها . هكذا انظمة هي فعلا التي تشوه سمعة شعب بقراراتها الارتجالية وعبثية استخفافها بعقول رأيه العام .
وكمثال حي على هذه النقطة ماعرفته منطقة عين اللوح وتنغير قبل ثلاث سنوات . حين عمدت فيالق حزب اسلاميي العرش العلوي العدالة والتنمية بعد ان وجدت لها مواطئ قدم في مجالسها المحلية إلى شن حملات مطاردة عاملات الجنس في الاحياء التي استوطنتها لعشرات السنين . لم تفكر فيالق البيجيدي في خلق بدائل اقتصادية بل الاصح انها عاجزة عن ذلك لهن واكتفت بإبعادهن من بورديلاتهن كحل من لاحل لديه . النتيجة الطبيعية أن بعضهن غيرن الاحياء فقط دون المهنة ، وبعضهن غيرنا المدينة والتحقن بقرى ومدن أخرى . وحدهم اسلاميو نصف الليل جنوا المكاسب الانتخابية وارتفع مؤشرهم لدى العامة الرعاع وفازوا بمزيد من الكراسي ومنهم من سيسافر لواحدة من اللواتي طردوهن ليقضي معها ليلة ماجنة حتى مطلع الفجر .

في الختم ستكون الحرية...
سأختم هذا المقال بعبارتين تعودان لفترة مابعد اندلاع الثورة الفرنسية بقليل لأن المخاض الذي يعرفه بلدنا المغرب لايختلف كثيرا وللأسف عن مخاض فرنسا بداية القرن التاسع عشر :
"إذا كانت عادات أمة هي التي تشكل روح المؤلفات الادبية حاليا ..فقريبا ستصبح المؤلفات الادبية هي التي ستشكل روح تلك الامة" ...عن المسرحي الفرنسي شوني .
« La bataille qui va s'engager à Hernani est celle des idées, celle du progrès. C'est une lutte en commun. Nous allons combattre cette vieille littérature crénelée, verrouillée [...] Ce siège est la lutte de l'ancien monde et du nouveau monde, nous sommes tous du monde nouveau "Victor Hugo..