*عبدالرحيم زيكوك
سيرا على نهج كبار الفلاسفة والأدباء و الروائيون، كبيدبا، و رفائيل ألبرتي، و جورج أورويل... وسعيا منه لمقاربة الإشكالات والصراعات السياسية التي يعج بها واقعنا المغربي، وانسجاما مع كثرة الموانع التي تعرقل الكتابة الروائية ذات الحمولة السياسية بالمغرب، والتي تَحُول بين المرء والإفصاح بما يموج في ذهنه من تصورات حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية... ارتأى المفكر المغربي حسن أوريد الذي عرف دواليب السياسة، وحذق المناورات الدبلوماسية... إلى إصدار رواية مثيرة ومقلقة بذات الوقت، تحمل عنوان " الأجمة"؛ تتحدد هذه الأخيرة بكونها أرض برية غير منزرعة كثيفة الأشجار، ونقول أيضا "أجمة الأسد" أي مأواه.
بعد أن سبرت أغوار الرواية، وجدت أن صاحبها يطلعنا بطبيعة الصراعات السياسية التي تعرفها القيادات و الفصائل المتصارعة حول السلطة، ولماذا اقتصر الحكم على فئة دون غيرها، والدواعي الحقيقة لتبني اللغة الرسمية للبلاد، والتبعية التي يعرفها المغرب للامبريالية، وتدخل الدول الكبرى في شؤون دولتنا، وكيف تلعب الدول الكبرى على ملف حقوق الإنسان لتدعيم أو سلب الشرعية من الماسك بدفة الحكم في مغربنا. كما يوضح أيضا، كيف أنَّ السياسة الاقتصاديَّة التي انتهجهَا المغرب قامت على فتح الباب أمام الرأسمال الأجنبي، وتوظيف استثمارات مهمة في البنيات التحتية بموارد ضخمة لتكريس سيطرته، زيادةً على إقرار امتيازاتٍ ضريبيَّة لم يستفد منها عموم الشعوب. وأن المشاريع الكبرى التي تقوم بها السلطات إما بدافع من مصلحتها الذاتية، أو بإيعاز من الضغوطات الخارجية، وأحيانا أخرى بضغط من المعارضة الشعبية بزعامة فصيل سياسي قوي. كما يقدم طريقة المخابرات في اقتحام حلقات الخصوم السياسية، وكيف تُخمد ثورات الشعوب وانتفاضتها من أجل الخبز والكرامة؛ ويشير في ومضات إلى كون الماسكين بزمام الأمور كراكيز تحركها أيادي خارجية وأنها غير عالمة في أمور السياسة؛ كل اختياراتها تكون إما بالصدفة أو من إملاءات خارجية ، بل أكثر من ذلك هي التي ساعدت المستعمر بتوطيد وجوده في أجمة الأحرار؛ ونفس الشيء مع بعض الفصائل من المعارضة. كما يوضح أن الصراع بين القوى العظمى في العالم يلقي بثقله على دولتنا... وكيف يُستغل التعليم لتربية الناشئة وفق الغايات التي تريدها السلطة، كما الإعلام بدوره؟ وكيف تراجع النظام الحاكم في الأجمة عن المنهجية الديموقراطية في الحكم بعد الانتخابات؟ وغيرها من الإشكالات والمناورات السياسية التي تقض مضجعنا اليوم.
كانت أجمة الأحرار ، تعرف نوعا من الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي و الأمني... إذ كانت توزع ثرواتها وخيراتها توزيعا عادلا، كيف لها ألا تعيش في النعيم؟ ومبدأ السلطة السياسية عندها يرتكز على العدل والإنصاف، فلا قانون يعلو عما تقرره الحيوانات في اجتماع "أكرو"... وهذا عين الديموقراطية، والإشراك في تدبير شؤون" الأجمة" دولة الإنسان كما اقترحتُ للرواية كعنوان بديل ...
الصراعات الداخلية والأطماع الاستعمارية من طرف أزروال وأزكاغ (القوى الكبرى في العالم: الحيوانات التي تمشي على قدمين) بعد موت"يوغرتن" الحاكم الذي اجتمعت حوله الحيوانات:
كانت حيوانات الأجمة تعرف نوعا من الحرية، وكانت تتمتع بالقوة، وتصد كل متربص بها من باقي الحيوانات الخارجية... إلا أنه مع مجيء الحيوان الذي يمشي على قدمين(أزروال أمزوارو وبعده أزروا ل وس سين من جهة وبني زكاغ من جهة ثانية)، أحل الويل يهدد استقلال الأجمة؛ مما حذا بالحيوانات إلى ضرورة الدفاع عن قلعتهم، السباع والطيور والخرفان... ولم يتلكأ إلا الذيبة؛ وتخلف نهائيا كل من الحمير والكلاب، لكن هذه الأخيرة هي التي استفادت بعد ذلك من استقلال الأجمة بعد أن ساعدها بني زروال لأنها صنيعته. دخلت الأجمة في حرب ضروس ضد الحيوان الذي يمشي على قدمين وكانت الغلبة لصالحها بزعامة سبع امتاز بشجاعته، فالتفت حوله الحيوانات وجعلته لسان حالها وأطلقت عليه اسم "يوغرتن" تكريما له وإجلال له. فكان هذا الحاكم السبع في حسن ظن الحيوانات فعمل جهد إمكانه لصالح الأجمة فحقق لها الأمن الغذائي ... بيد أن الجفاف أدى إلى نقص في المؤونة، مما أدى بيوغرتن إلى نهج سياسة جديدة لبناء "المخزن" يودع فيه ما تنتجه الأجمة وتُراكمه من خيرات تحسبا لأي طارئ... فاستحسنت باقي الحيوانات هذه السياسة الرشيدة. غير أنه وقع ما لم يكن في الحسبان: عجلت الموت بيوغرتن قبل أن يتحقق هذا المشروع.
ما أن علمت الحيوانات بهذا النبأ المُحزن، حتى بدأ الصراع السياسي ينخر جسدها ويهدد حالة الاستقرار السياسي الذي كانت تعرفه الأجمة أيام يوغرتن دون الاهتمام حتى بمراسيم دفنه، إلى أنْ فطن الخروف "أعلوش" إلى ضرورة التعجيل بذلك؛ هذا ما يبين أن السعي نحو السلطة يعلو فوق الضرورة الدينية. وكان أعلوش قريبا من يوغرتن فرأت بعض الحيوانات من الخراف والحمائم وحتى الذيبة وهي أفطن الحيوانات وأذكاها أن تُولِّيه مقاليد الحكم؛ في حين رأت أخرى أن تسند أمور الأجمة إلى السباع لقرابتها من يوغرتن، وكانت تدفع بهذا الرأي الدجاج والكلاب؛ كما هناك طائفة أخرى محايدة، لا رأي لها واضح، في الصراع ولا تريد إلا توفير لوازم المعيش كالأرانب التي لا تريد إلا المرح في مروج الأجمة، والهررة التي هددتها الكلاب يالتصفية الجسدية إن هي خاضت في الصراع السياسي، والجرذان التي أغرتها الدجاج ببعض الحَبِّ والفتات. والمتأمل في واقعنا يستشف هذه الحيل التي تُعتمد في الانتخابات وكل الأمور السياسية التي لها علاقة بقراراتنا المصيرية، لكم أن تتخيلوا ذلك، ولا أريد أن أسقط في فخ تسميات الفصائل لكي يكون التأويل مرن وأن يبقى حيا يفيدنا في كل حالة مماثلة...
استمر هذا الصراع إلى أن تولى دواليب الحكم "أمود" ، بمعية بعض الحيوانات التي شكلت كتلة "السباع، والذئاب، والخراف" اختلف رواة الأجمة في تقييم هذه الفترة القصيرة من الحكم إلا أنه بعد موت أمود، وجدت الذيبة فرصة جديد للانقضاض على الحكم، لا سيما أنها ألبت باقي الحيوانات ضد السباع؛ فكان لها ما أرادت لكنها لم تكن مخلصة في ما تدعو إليه وكانت غارقة في الملذات والإسراف والتبذير وانفردت لذاتها وفصيلتها بكل شيئ. في غمرة هذا الفساد أقدمت الخراف على اغتيال كبير ة الذيبة، وتولى بعدها الخروف أعلوش شؤون الأجمة. لكن قوته وشدته وقسوته عجلت بزوال حكمه، لا سيما أن الحيوانات ألفت بعض الحرية في ظل حكم يوغرتن ومن أتى بعده، و"الحيوانات إذا ذاقت طعم الحرية لا تُساق بعدها بالشدة" (ص 12) فقاومت حكم هذا الخروف أعلوش، بزعامة الذئاب، فقامت باغتياله في جنح الظلام.
بعد هذا اللغط من الانقلابات والصراعات استولت السباع على الحكم بزعامة "إزم" الذي توفيت أمه وكفلته ذيبة وسقته لبنها، فحذق طرائق الذئاب في المناورة وطرق السباع في المقاومة، كيف لا وهو ينحذر من فصيلة هذه الأخيرة، ويقدم نفسه أنه الوريث الشرعي ليوغرتن، مع العلم أن هذا الأخير لم تعرف عنه الحيوانات قول يدعو إلى توارث السلطان. دام حكمه لردح طويل من الزمن؛ كان في البداية يُشرك باقي الحيوانات في تدبير شؤون الأجمة، لكن سرعان ما استأثر بالرأي وانفرد بالسلطة بعد أن تمكن من عزل الذئاب بتعاون مع الكلاب... ووعد الدجاج والكلاب بأن تكون القيمة على شؤون المخزن متى انتهى بناؤه... هنا تبدأ المشاورات السياسية والمناورات والدسائس من طرف السباع لإقصاء الخصوم السياسية وإضعافها... مع الاشارة إلى أن كل القوى السياسية في الأجنة تُقدم نفسها على أنها الوحيدة التي تملك الشرعية والأحقية في بعث ميراث يوغرتن، وأنها هي القادرة على السير على منواله لاسترجاع مجد الأجمة...
بعد أن استقر الحكم لإزم، ظهر يوم الاحتفال بعيد الجلاء"انتصار يوغرتن على الحيوان الذي يمشي على قدمين" بأبهة يجلس على عرش زُين بعروش النخيل والغار، ووقف على يمينه كبار الكلاب وعن شماله كبير الدجاج... واصطنع إزم ديكا ناطقا رسميا باسمه ويذكر محاسنه ويمجد أفعاله، وينحني ويقبل الأرض أمامه إجلالا له... وتقدم بخطبة يذكر فيها الأجمة بأن معالي المقام يسير على نهج يوغرتن، وقابلته الذئاب بالتنديد واستنكار الخطاب، ولم يخفي كبير الخراف إزيمر خيبة أمله مما آلت إليه أوضاع الأجمة والتراجع عن غايات يوغرتن ومنهجه في الحكم.
في ظل حكم إزم، عملت الحيوانات على استكمال مشروع بناء المخزن، وتحملت نفقاته من أداء الضرائب والعمل الشاق، وخصصت جزءا من إنتاجها لتغطية نفقات المشروع... لكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. كما هو معلوم في سياساتنا، فالمشاريع تأتي دائما على كاهل الطبقات الشعبية. فنفس الشيء نجده في أجمة الحيوانات؛ إذ نجد الكلاب فرضت ضرائب ثقيلة على الحيوانات وتستخلصها قصرا وتتصرف فيها لمصالحها؛ وعلى نهجها سارت الدجاج، إذ تجني من كد الحيوانات أرباحا طائلة مما أغرقها في ملذات الحياة... وهذا الوضع الجديد ترك غصة كبيرة في قلوب الحيوانات، وكان البلبل يعبر عما يخالجها بفنه الملتزم ويبعث فيها الحماس، ما لم تستسغه الكلاب فاستعاضت عنه بالغراب...
ولعل مباركة إزم لفرض المزيد من الضرائب لدليل على رغبته بتغير منهج الحكم، بإيعاز من الكلاب، التي استغلت مقتل دجاجتين لتحمل مسؤولية الجريمة إلى معارضيها السياسيين، فاعتقلت إزيمر وكان ذلك نهاية لرغبة الخراف في المشاركة في الحكم... وأحكمت الكلاب القبضة الحديدة على الأجمة... وأورد كبير الكلاب" إدى" تقريرا يوضح فيه تورط إزيمر في العملية، ويحذر من مغبة إستغلال الذئاب للحدث وشن هجمتها ضد إزم. وهذا يبين المنطق الذي يفكر به النظام السياسي في بلدنا. "وانقض المجلس وقد عهد للكلاب باتخاذ التدابير اللازمة لتطبيق أوامر إزم الحيوانية وهي أسمى مراتب الأوامر الصادرة عن إزم" (ص21).
أمام هذه القبضة الحديدية التي يسير بها إزم وأذنابه من الكلاب دواليب الأجمة، ظهرت قوة سياسية معارضة وقوة شعبية معارضة ترفض التنميط الذي يريد فرضه. واستمر الوضع على ما هو عليه طيلة الحكام الذين تعاقبوا على حكم الأجمة؛ بل وصل أوجه مع كل من أغيلاس و أملال وهما من فصيلة السباع. لكن الملاحظ هو أنه كلما كانت قوة النظام السياسي الحاكم في الأجمة أكثر تشددا، تتحول معه الحيوانات إلى المقاومة الشرسة، والاستماتة في الدفاع عن حقوقها وعرضها. لعل أبرز مقاومة هي التي تحولت إلى ثورة عارمة أشعل شرارتها أرنب جائع ذهب إلى المطحنة يريد بعض النخالة لأبنائه الصغار ، فصدته الدجاج بقوة وتوعده بالاستنجاد بالكلاب، لكن الأرنب رفض التهديدات فانقض على الدجاجة، فانضمت إليه باقي الأرانب والجرذان وباقي الحيوانات... فأرادت الكلاب إطفاء نار الثورة لكنها انهزمت، مما أجبر الملك أملال إلى إصدار أوامره الحيوانية للسباع لكي تثخن الجميع، فكانت الحصيلة مريعة، فقد ملأت الجثث أماكن المواجهة وتطايرت أشلاءها... لكن النظام الحاكم في الأجمة أمرت الديك "أدرغال" لسان حالها بتقديم رقما أقل بكثير من حجم الحقيقة... لكن هذه المواجه أظهرت لأملال أن الأساليب القديمة في الحكم من قمع وزجر لم تعد صالحة لتسير شؤون الأجمة، بعض مشاورات مع كبير الكلاب و الحمير والدجاج، وبعد ضغوطات بني زروال أن بلاده لن تسكن عن انتهاك حقوق الحيوان، وعدم احترام مواثيق الغاب... ودعتها إلى ضرورة توفير لمزيد من حرية التعبير وحرية التفكير...
في غمرة الصراع بين النظام الحاكم السباع، من جهة و بين القوى السياسية (الكباش والذئاب)، من جهة ثانية، تبقى الحيوانات تؤدي الثمن ... وتضيع الحقيقة بين تلك القوى، فلا يمكن لفصيل أن يقصي الآخر للانفراد بالحكم، وكل واحد لا يملك الحقيقة المطلقة بمفرده، فإذا أردة الأجمة أن تخرج من كل هذا اللغط و العودة إلى ما كانت تعرفه في الماضي من استقرار و ازدهار... عليها أن تعود إلى الطريقة الأولى في الحكم و تسير شؤون الأجمة بالتشاور أثناء الاجتماع "أكرو" ولا سلطة تعلو على ما يُقرر هناك... الديموقراطية واحترام حقوق المواطن بلغة اليوم. إلا ستبقى الحيوانات " الموطنون يؤدون الثمن... التيارات المتصارعة في البلد تصارع والشعب يؤدي الضريبة... فوضى مستمرة، ضياع الحقيقة أمام هذا اللغط الغير المبرر... تورط أيادي خارجية في أثار الشغب والفوضى في أجمة الأحرار... وتبقى دعوة الراوي أفقا منشودا يستوجب ترجيح كافة العقل ... قال الراوي: ومازالت السباع والذئاب والكباش في عراكها وصراعها، ثم إن الحمام أثبير أمزيان أرسل هديله:
" وأما الأجمة فميراث مشترك، وليس لفصيل أن يستأثر بها دون آخر. فهي ملك للسباع والذئاب وللكباش ولكافة الحيوانات. وهو ملك تُصاغ بنوده ككل عقد عند كل جيل"، ثم تذكر أنشودة البلبل فسجع بهديله الحزين: "وستورق الأشجار بعد ذبولها، وتجود السماء بعد مَحْلِها، وتزهر الأرض بعد قحطها، وينقشع النور بعد الظلام، وتلتئم جراح الأجمة، ويعم التآخي كافة بنيها الأحرار".
رواية ممتعة توفق حسن أوريد في اتخاذ الحيوانات داخل الأجمة كتعبير عن واقعنا السياسي الذي عرفه المغرب، والعودة به إلى أصوله وجذوره لكي نفهمه ونستوعبه، مما يُجبرنا على قراءة الرواية أكثر من مرة لنستمتع ونفهم طبيعة الصراع وما الذي يقع في المطبخ السياسي، سواء للنظام أو الحركات السياسية والأحزاب... رفع أوريد الحُجب عنا بهذه الرواية، تجرعت من خلالها المرارة....

*عبدالرحيم زيكوك كاتب ,أستاذ مادة الفلسفة .